الثلاثاء، 16 أبريل 2019

متاهة - قصة قصيرة - عائشة أحمد




 

في البداية كانت خطواتها مترددة، مرتبكة وحائرة، تتحسس طريقها بروية. صوت ما يقول لها إن كل شيء سيكون على ما يرام، لكن شعوراً بالتأهب، أو ربما هو الخوف، لم تستطع رده

تندلع شمس الصيف بغتة، تغسل الأحجار الصغيرة التي ترصف الطرقات بالضوء، ومعها تغمرها دفعة من الثقة. تمضي في خطوات متسارعة، بالطبع ستجد دربها، سخرت من نفسها؛ توترها هذا لا مبرر له، فقد بدت المتاهة من نافذة غرفتها صغيرة، ومحدودة المساحة. ثم إن الأطفال يدخلون ويخرجون منها فرادى وفي جماعات دون عناء. راقبتهم يوم أمس، يدورون داخلها، والأمهات لا يلقين بالاً.



منذ اليوم الأول لوصولها إلى هذا القصر القديم، والذي تم تحويله أسوة ببقية قصور المنطقة إلى منتجع وفندق فخم، وهي تَعِد نفسها بقضاء وقت أطول للاستمتاع بمرافقه واستكشاف حديقته الضخمة، لكن كثرة الوجهات السياحية في المدن المجاورة ملأت جدولها عن آخره: كنيسة، ودير، ومتحف، وقرى منسية هنا وهناك. تضيع وسط الزحام وبين أفواج السياح. تشعل الشموع معهم وتنذر. تجثو على المقاعد الخشبية الصلبة وتشبك يديها لتصلي صلاة لا تفقه شيئاً فيها، وتحاول أن تستكين، بل إنها فكرت باللجوء لإحدى الكبائن المحفورة والمزخرفة بإفراط، للاعتراف لأحد الكهنة بخطايا لم ترتكبها. خطيئتها الكبرى أنها لم تخطئ بما يكفي، تردد لنفسها متهكمة. تتململ في مقعدها، ركبتها اليمنى تؤلمها قليلاً، تقف وتعود للمشي في جنبات الكاتدرائية الكبيرة والمزينة بتماثيل ورسومات جصية بسيطة من نهايات القرون الوسطى وبدايات عصر النهضة. تأخذ نفساً، لكن رائحة اللبان المحروق في أرجاء المكان تكاد تخنقها.

تنسل بين أهالي القرية في سوقهم البلدي لتبتاع منتجات صنعت يدوياً لا حاجة لها بها: صابون وزيت عطري ومفارش قطنية موشاة بالدانتيلا، مربى من فواكه برية، وزجاجات صغيرة من العسل. تكدس الأشياء في سلتها وتنسى نفسها.

لكنها في هذا النهار، لما أطلت على حديقة القصر من أعلى، ونظرت لامتداد العشب المشرق والمروج الرحبة وراءها، قررت أنها لا بد أن تأخذ وقتاً للراحة من الركض هنا وهناك. تنظر إلى أحواض الأزهار المرصوصة بعناية حول الممشى الحجري والذي يقود بدوره إلى نافورة عظيمة، هادئة الآن، لكن عندما يتم تشغيلها قبيل المساء وأحيانا في الليل، تندفع المياه من وسطها بطريقة دراماتيكية جداً على غرار هوس الباروكيين بمسرحة كل شيء وعشقهم للمبالغات والبذخ، تهدر بصوت عال ومخيف إلى حد ما. يبدأ الماء بالانهمار من تماثيل المرمر التي تنتصب واقفة في المنتصف، بأجساد شبه عارية ومثالية المقاييس، تنوء بالدلاء فوق رؤوسها وعلى أكتافها، وينثال منها الماء متتابعاً. تلبد عند أقدام هذه المنحوتات حيوانات غريبة قُدّت من ذات الصخر، ويجري من أفواه بعضها الماء أيضاً.

خطوة وأخرى داخل المتاهة ويتخلى الأمان عنها، يتركها نهباً للحذر والتوجس ثانية. تعود إلى الإبطاء من سيرها، تمرر يدها على أوراق الشجيرات. لبعضها ملمس مخملي، والآخر صقيل ولامع. زهور بيضاء وصفراء، حمراء وبنفسجية، تجهل أسماءها. وهناك درجات الأخضر كاملة، من الكامد إلى الأكثر إشراقاً، تتوه في تأملها وهي تمشي كالمنوّمة في الطرق الملتوية. وحين ينعطف المسار، وتجد نفسها أمام مفترق، تترد طويلاً. كم تكره هذا. لم تكن يوماً قادرة على اتخاذ قرارات مهما كانت تافهة أو حتمية. تغرق في تلبكها، وتحار أي جانب سيقودها إلى الخلاص. تشعر أنها وقعت في شبكة محكمة، تتنهد، تلتفت إلى الخلف، لكن شيئاً ما يدفعها للاستمرار، إلى الأمام.

تشتد حرارة الطقس، تشعر بالضيق في فستانها الأصفر. عندما لبسته هذا الصباح لأول مرة، ونظرت إلى نفسها بإعجاب في المرآة، أحست وكأنها ارتدت قطعة من الشمس؛ الشمس في منتصف النهار وفي يوم صحو يشبه هذا. لمحت نظرات الإعجاب في عيون نزلاء الفندق وهي تتناول إفطارها، لكنها الآن تكاد تختنق بقماشه الرقيق المشجّر. تُواصل السير بعزم أكبر، تمسح حبيبات العرق التي تجمعت فوق شفتيها وعنقها وما بين نهديها بمنديل ورقي. وعيها بالبقعتين اللتين تكونتا تحت إبطيها يضايقها أكثر فأكثر. كم تتوق لحمام بارد الآن. لكنها تطمئن نفسها، ما هي إلا دقائق حتى تعثر على المخرج بالضرورة. ومع ذلك فإن الدقائق تمر، وإحساسها بفقدان الاتجاه يزيد.

تناهت إليها أصوات قريبة، ضحكات مكتومة، وقع أقدام صغيرة تتابع، لا بد أنها اقتربت من المسار الرئيسي للحديقة إذن. لا تستطيع أن تميز شيئاً من الأسوار المنيعة حولها والمنسوجة من أجمات كثيفة، كلما وجدت ثغرة، تقابلها مباشرة شبكة معقدة من وريقات صغيرة أخرى تصنع جداراً فاصلاً بينها وبين النجاة. تتنهد طويلاً وترفع شعرها إلى الأعلى بيد، وبالأخرى تمسح ما وراء رقبتها. تنظر نحو السماء كمن يستعطف أحداً أو يستجديه. ولوهلة، توارت الشمس وراء غيوم صيفية متفرقة، وانكسرت حرارتها قليلاً. انتعشت بعض الشيء، وواصلت المسير وهي لا تزال تفكر. تتداخل الخواطر في رأسها وتهدر؛ تتدافع مثل مياه النافورة الضخمة.

تمشي وتمشي ولا يبدو أنها تصل لنتيجة.

البارحة، وعند مدخل الكاتدرائية العملاقة شعرت بأنها لا شيء، نقطة متناهية الصغر في محيط شاسع، نملة ضئيلة في مرعى هائل. “يا لتفاهة الانسان!” هكذا فكرت. أصابتها عظمة البناء القروسطي بالدوار، خاصة بعد أن صوبت نظرها تجاه السقف الشاهق بقناطره المتقاطعة. كادت أن تقع، لولا أن مقعدا قريبا أنقذها.  ألقت بنفسها عليه، بكامل ثقلها، وتنفست بصعوبة. كان الجو جحيمياً في الخارج. لكنه داخل غابة الأعمدة الحجرية تلك، بدا أكثر برودة وثقلاً. ثقيل كأنما ليذكّر بتعاقب القرون وانصرام الزمن.

اقترب منها متسول ما. تأففت وتنامى في داخلها الغضب. أحست وكأنه قطع عليها خلوتها. كانت تحدق بهدوء في تمثال خشبي للمسيح المصلوب على المذبح، بينما كان عقلها يطوف في شتى الأمكنة، وبصرها يحط على كل الوجوه ما عدا وجه المسيح المتيبس بدمائه، والتي تنقط على جبهته وأنفه ووجنتيه. أعطت المتسول بضع قطع نقدية وهي تلوي فمها ساخطة، ونهضت بعصبية مغادرة المكان.

تنتابها أفكار كثيرة وهي لا زالت ماضية داخل المتاهة بشرود وبطء. تنسى نفسها قليلاً ويغادرها الروع. لكنها، وبعد مرور دقائق تنتبه إلى أن جميع الأصوات اختفت. ترهف السمع لكن الصمت  مطبق. توقفت العصافير عن التغريد، وسكن الهواء تماماً. انقطعت الأوراق عن إصدار حفيفها الناعس، والحشرات عن أزيزها المزعج. يزداد خفقان قلبها، ورعشة تسري في جسدها. تغمض عينيها في محاولة منها للتركيز؛ لا صوت ولا نأمة، وكأن الزمن قد توقف وكأنها خارجه. هنا تملكها الهلع.

الشمس فوقها تماماً. لا نظاراتها السوداء ولا قبعتها التي ابتاعتها من مركز المدينة توفر الحماية اللازمة ضد قسوتها. تنظر إلى الساعة حول معصمها، لكن لا تكاد تمضي ربع ساعة حتى تشعر وكأنها أبد. تمر على تعريشة تبدو مألوفة لها، هل مرت عليها قبل دقائق؟ تذكر جيداً تلك الفجوة بين وريقاتها في الطرف القصي الأيسر، لكن أعادت إلى ذات المسار حقاً؟

أمامها الآن ثلاثة طرق. تحيرها الاحتمالات المفتوحة أكثر. في الصباح مثلاً، يكفي أن تمسح بعينيها طاولة البوفيه العامرة بأصناف الطعام المتعددة، حتى تشعر بانسداد الشهية والشبع. تتكاسل على كرسيها وتكتفي بتناول شيء بسيط، ولا تعود لملئ صحنها ثانية مهما نبهها الندل باقتراب موعد انتهاء الإفطار.

تجد نفسها حيث كانت قبل دقائق، لابد أنها تدور في حلقة مفرغة. تدوخ، تغمض عينيها وكأنها في كابوس، وكأن الأرض تميد بها. تميل بعنقها إلى الوراء في محاولة منها لتجرع آخر قطرة تبقت في زجاجة الماء التي في حوزتها. تنظر حولها بيأس، ويختلط الأمر عليها، لكنها في النهاية تواصل السير بإذعان ورضوخ.

تمر عليها مجموعة فراشات ملونة، ترفرف عاكسة ضوء الشمس. كانت – بخلاف زميلاتها في المدرسة – تخاف من تلك المخلوقات الصغيرة. كن يضحكن عليها، لا تدري ماذا كانت قد قرأت أو سمعت حتى ترتعب منها هكذا. تجاوزت هذا الآن، كما تجاوزت الكثير من مخاوف الطفولة، لكنها بين وقت وآخر قد تحلم بسرب فراشات يهجم عليها، أو طيور سوداء تهوي من أعلى السماء باتجاهها.

تعود الأصوات فجأة، لكن بانسياب تام. وتجد نفسها منصاعة للطريق، يأخذها حيث يشاء.

وفي اللحظة التي كان فيها استسلامها حقيقيا وتاما، لا وجل ولا خيفة، بل على النقيض تماماً، انتابتها قشعريرة حلوة، وأصبحت في الواقع، مستمتعة بإحساس التوهان ذاك، والمضي هكذا، دونما هدف… في تلك اللحظة فقط، برز أمامها فجأة طفل أسمر ناحل يتقافز في حذاء تنس أصفر، ووجدت نفسها مباشرة أمام المخرج والأمهات رائحات وغاديات.


https://yrakha.com/2019/04/15/%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D8%B4%D8%A9-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%85%D8%AA%D8%A7%D9%87%D8%A9/



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.